بعد أن إنحدر الزمان بالأمة الإسلامیة وابتعدت عن عصر الوحی، وبعد ان امتدت بها الأیام والسنون وفقدت الأمة الجیل الذی عاصر الرسول الذی أُرسل إلیها لیخرجها من ظلمة الجهل إلى نور العلم ومن عصر التخلف إلى عصر الحضارة والتمدن، فبعد أن فقدت الأمة رسولها والجیل الذی عاصره وسمع منه أخذت تنشأ المدارس المتعددة والمذاهب الإسلامیة المختلفة.
ان بین تلک المدارس التی ظهرت فی الساحة الإسلامیة هی مدرسة أئمة أهل البیت الذی غرس بذورها الإمام علی بن الحسین علیه السلام وترعرعت ونمت وتشکلت هیکلیتها على ید ولده الإمام محمد الباقر علیه السلام وظهرت وبانت أرکانها واتسعت أطرافها وجنت ثمارها فی زمن الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام وشاع صیتها فی عصره حتى نُسبت إلیه فکان زعیمها وعمیدها.
کانت مدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام تتمیز عن غیرها من المدارس الإسلامیة التی عاصرتها أو سبقتها وتأخرت عنها، فمدرسة الصادق علیه السلام شمخت بنفسها وسطع نورها حتى شغلت العیون والأفکار عما سواه فکأنک لا تکاد ترى شیئاً سواها إذا ما قیست لهذه المدرسة العملاقة.
ویمکن ان نشیر إلى بعض نقاط القوة التی میزت هذه المدرسة عن غیرها من المدارس الإسلامیة، وأضفت علیها هالة من العظمة والرصانة والإتقان فمن نقاط القوة هی قوة شخصیة المؤسس لهذه المدرسة، فإن المؤسس لهذه المدرسة هو جعفر بن محمد الصادق الذی کان أفضل أهل زمانه نسباً وعلماً وفضلاً وخُلقاً وعبادة وحکمة وزهداً فی الدنیا، مما حدا بالقریب والبعید، العدو والصدیق، ان یطری على هذه الشخصیة ویذکرها بکل جمیل.
وهناک أقوال کثیرة منقولة عن علماء المذاهب الإسلامیة فی حق الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام ومقامه الرفیع فی العلم والفضل والکمال، وقد نقل الشیخ محمد أمین الأمینی فی کتابه جعفر بن محمد الصادق رمز الحضارة الإسلامیة أکثر من خمسین عالماً من علماء المسلمین من مختلف المذاهب وهم یذکرون الإمام الصادق بکل جمیل.
ولذا یقول الشیخ محمد أبو زهرة شیخ الأزهر: ما أجمع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم فی أمر کما اجمعوا على فضل الإمام الصادق وعلمه. فواحدة من امتیازات هذه المدرسة أن المؤسس لها هو شخصیة أجمعت العلماء على سعة علمه ومتانة دلیله وشدة ورعه وتقواه وزهده وعبادته.
والامتیاز الثانی لهذه المدرسة على غیرها من المدارس الإسلامیة: ان هذه المدرسة تتصف بالشمولیة، فهی لا تقتصر على دراسة الفقه والحدیث کما هو المتعارف فی سائر المدارس بل کان فیها الفقه والحدیث والتفسیر وعلوم القرآن وعلم الکلام وفنون العربیة بل تجاوزت ذلک لتشمل العلوم الإنسانیة أمثال علم الکیمیاء والطب والفلک وعلم الهیئة والطبیعة وغیرها.
فکانت مدرسة تشتمل على أصناف کثیرة من العلوم الإسلامیة والإنسانیة ومن النقاط التی تمثل مواقع قوة فی هذه المدرسة، امتیازها عما سواها من المدارس هی الدقة والعمق العلمی.
فمدرسة الإمام الصادق علیه السلام لم تکن مدرسة سطحیة بل مدرسة تعتمد الدلیل والنقد العلمی، وتحلیل الآراء وإرجاع الأقوال إلى أصولها لیتبین صحتها من سقمها ولذلک کان الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام وتلامذته لا یفحمون؟ بمقال ولا یغلبون فی مناظرة.
کما ان هذه المدرسة المبارکة قد امتازت بکثرة طلابها الذین بلغ عددهم أربعة آلاف طالب کما نص على ذلک المؤرخون، وهو عدد لیس بالسهل، وهذه الأعداد الهائلة والجموع الغفیرة وأکثرهم من رموز الساحة الفکریة الإسلامیة الذین کان لهم شأن فیما بعد لا تجتمع حول هذه المدرسة لولا أنهم رؤوا أنها أفضل من غیرها.
فهذه المدرسة الکبرى کانت تشتمل على کل هذا العدد الضخم من الطلاب وکل هؤلاء درسوا بالمباشرة عن الإمام الصادق علیه السلام، وکان هؤلاء التلامذة الأربعة آلاف لهم تلامیذ وهناک کلمة جمیلة للأدیب جوزیف الهاشم فی خصوص هذه النقطة یقول فیها: لم یکن الإمام الصادق صامتاً محایداً فأعرض عن الحرب ـ کما أتهموه ـ وعن انقاذ أساس العقیدة والتشریع، لقد شنها حرباً بلا هوادة على الهراطقة والغلاة والطغاة والملحدین وامتشق السلاح الأمضى فی معمعة الانحراف الدینی والخلقی، فأنشأ جیشه المظفر، جیش الأربعة آلاف طالب یعده حارساً أمیناً للکیان الإسلامی، وجیلاً سیاسیاً صالحاً مهیئاً لتسلم مقالید الدولة وصیانة حق الشعب فی مواجهة الغوغائیین والانتهازیین.
إذاً فمدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام کانت تمثل جیشاً فکریاً یقارع التیارات الفکریة المنحرفة عن خط السماء من داخل المساحة الإسلامیة وخارجها، فکان تلامذة هذه المدرسة حماة الدین وحفظة الرسالة حتى أوصلوها سلیمة من التحریف، نقیة من الشوائب إلى الأجیال التی تلتهم.
http://www.aladalanews.net/index.php?show=news&action=article&id=64472
<>